فصل: (سورة الصافات: الآيات 20- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الصافات: الآيات 8- 10]:

{لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)}.
الضمير في لا يَسَّمَّعُونَ لكل شيطان، لأنه في معنى الشياطين. وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله: يتسمعون. والتسمع: تطلب السماع. يقال: تسمع فسمع، أو فلم يسمع.
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: هم يتسمعون ولا يسمعون، وبهذا ينصر التخفيف على التشديد، فإن قلت: لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان، أو استئنافا فلا تصحّ الصفة لأنّ الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يستمعون لا معنى له، وكذلك الاستئناف لأنّ سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟
فأجيب بأنهم لا يسمعون: لم يستقم، فبقى أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا، لما عليه حال المسترقة للسمع، وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة. أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة، فعندها تعاجله الهلكة بإتباع الشهاب الثاقب. فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله:
لئلا يسمعوا فحذفت اللام كما حذفت في قولك: جئتك أن تكرمني، فبقى أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها، كما في قول القائل:
ألا أيها ذا الزّاجرى أحضر الوغى

قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات، على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب. فإن قلت: أي فرق بين سمعت فلانا يتحدّث، وسمعت إليه يتحدّث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه؟ قلت: المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك، والملأ الأعلى: الملائكة، لأنهم يسكنون السماوات. والإنس والجن: هم الملأ الأسفل، لأنهم سكان الأرض. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: هم الكتبة من الملائكة. وعنه: أشراف الملائكة مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جميع جوانب السماء من أي جهة صعدوا للاستراق دُحُورًا مفعول له، أي: ويقذفون للدحور وهو الطرد، أو مدحورين على الحال. أو لأنّ القذف والطرد متقاربان في المعنى، فكأنه قيل:
يدحرون أو قذفا. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بفتح الدال على: قذفا دحورا طرودا. أو على أنه قد جاء مجيء القبول والولوع. والواصب: الدائم، وصب الأمر وصوبا، يعنى أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب، وقد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع مَنْ في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون، أي: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خَطِفَ الْخَطْفَةَ وقرئ: {خطف} بكسر الخاء والطاء وتشديدها، وخطف بفتح الخاء وكسر الطاء وتشديدها، وأصلهما: اختطف. وقرئ: {فأتبعه} و{فاتبعه} .

.[سورة الصافات: آية 11]:

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11)}.
الهمزة وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي بمعنى الاستفهام في أصلها، فلذلك قيل: {فَاسْتَفْتِهِمْ أي استخبرهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} ولم يقل: فقرّرهم، والضمير لمشركي مكة. قيل: نزلت في أبى الأشد بن كلدة، وكنى بذلك لشدّة بطشه وقوته أَمْ مَنْ خَلَقْنا يريد: ما ذكر من خلائقه: من الملائكة، والسماوات والأرض، والمشارق، والكواكب، والشهب الثواقب، والشياطين المردة، وغلب أولى العقل على غيرهم، فقال: من خلقنا، والدليل عليه قوله بعد عدّ هذه الأشياء: فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم من خلقنا، بالفاء المعقبة. وقوله: أم من خلقنا، مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدّمه، كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق وبدائعه، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الذي خلقناه من ذلك، ويقطع به قراءة من قرأ: {أم من عددنا}، بالتخفيف والتشديد. وأشدّ خلقا: يحتمل أقوى خلقا من قولهم: شديد الخلق. وفي خلقه شدّة، وأصعب خلقا وأشقه، على معنى الرد لإنكارهم البعث والنشأة الأخرى، وأنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة ولم يصعب عليه اختراعها كان خلق البشر عليه أهون. وخلقهم مِنْ طِينٍ لازِبٍ إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوّة، أو احتجاج عليهم بأنّ الطين اللازب الذي خلقوا منه تراب، فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله حيث قالوا: أئذا كنا ترابا. وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقيل: من خلقنا من الأمم الماضية، وليس هذا القول بملائم. وقرئ: {لازب} و{لاتب} والمعنى واحد، والثاقب: الشديد الإضاءة.

.[سورة الصافات: الآيات 12- 14]:

{بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)}.
بَلْ عَجِبْتَ من قدرة اللّه على هذه الخلائق العظيمة وَهم يَسْخَرُونَ منك ومن تعجبك ومما تريهم من آثار قدرة اللّه، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث.
وقرئ بضم التاء، أي: بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقى أنى عجبت منها، فكيف بعبادي وهؤلاء يجهلهم وعنادهم يسخرون من آياتي أو عجبت من أن ينكروا البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصف اللّه بالقدرة عليه. فإن قلت: كيف يجوز العجب على اللّه تعالى، وإنما هو روعة تعترى الإنسان عند استعظامه الشيء، واللّه تعالى لا يجوز عليه الروعة؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يجرد العجب لمعنى الاستعظام: والثاني: أن يتخيل العجب ويفرض.
وقد جاء في الحديث: «عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم».
وكان شريح يقرأ بالفتح ويقول: إنّ اللّه لا يعجب من شيء، وإنما يعجب من لا يعلم، فقال إبراهيم النخعي: إنّ شريحا كان يعجبه علمه وعبد اللّه أعلم، يريد عبد اللّه بن مسعود، وكان يقرأ بالضم. وقيل معناه: قل يا محمد بل عجبت. وَإِذا ذُكِّرُوا ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به وَإِذا رَأَوْا آيَةً من آيات اللّه البينة كانشقاق القمر ونحوه يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية. أو يستدعى بعضهم من بعض أن يسخر منها.

.[سورة الصافات: الآيات 15- 19]:

{وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُرابًا وَعِظامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)}.
وَآباؤُنَا معطوف على محل إِنْ واسمها. أو على الضمير في مبعوثون، والذي جوّز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام. والمعنى: أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد، يعنون أنهم أقدم، فبعثهم أبعد وأبطل. وقرئ {أو آباؤنا} {قُلْ نَعَمْ} وقرئ: {نعم} بكسر العين وهما لغتان. وقرئ: {قال نعم} ، أي اللّه تعالى أو الرسول صلى اللّه عليه وسلم. والمعنى: نعم تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون فَإِنَّما جواب شرط مقدّر تقديره: إذا كان ذلك فما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ وهي لا ترجع إلى شيء، إنما هي مبهمة موضحها خبرها. ويجوز: فإنما البعثة زجرة واحدة وهي النفخة الثانية. والزجرة: الصيحة، من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم: إذا صاح عليها فريعت لصوته. ومنه قوله:
زجر أبى عروة السباع إذا ** أشفق أن يختلطن بالغنم

يريد تصوينه بها فَإِذا هُمْ أحياء بصراء يَنْظُرُونَ.

.[سورة الصافات: الآيات 20- 21]:

{وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)}.
يحتمل أن يكون هذا يَوْمُ الدِّينِ إلى قوله احْشُرُوا من كلام الكفرة بعضهم مع بعض، وأن يكون من كلام الملائكة لهم، وأن يكون يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ كلام الكفرة. وهذا يَوْمُ الْفَصْلِ من كلام الملائكة جوابا لهم. ويوم الدين: اليوم الذي ندان فيه، أي نجازى بأعمالنا. ويوم الفصل: يوم القضاء، والفرق بين فرق الهدى والضلالة.

.[سورة الصافات: الآيات 22- 26]:

{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)}.
احْشُرُوا خطاب اللّه للملائكة، أو خطاب بعضهم مع بعض وَأَزْواجَهُمْ وضرباءهم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: وهم نظراؤهم وأشباههم من العصاة: أهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل السرقة مع أهل السرقة. وقيل: قرناؤهم من الشياطين. وقيل: نساؤهم اللاتي على دينهم فَاهْدُوهُمْ فعرّفوهم طريق النار حتى يسلكوها. هذا تهكم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا على خلاف ذلك في الدنيا متعاضدين متناصرين بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز، فكلهم مستسلم غير منتصر. وقرئ: {لا تتناصرون} و{لا تناصرون} بالإدغام.

.[سورة الصافات: الآيات 27- 35]:

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35)}.
اليمين لما كانت أشرف العضوين وأمتنهما وكانوا يتيمنون بها، فبها يصافحون ويماسحون ويناولون ويتناولون، ويزاولون أكثر الأمور، ويتشاءمون بالشمال، ولذلك سموها: الشؤمى، كما سموا أختها اليمنى، وتيمنوا بالسانح، وتطيروا بالبارح، وكان الأعسر معيبا عندهم، وعضدت الشريعة ذلك، فأمرت بمباشرة أفاضل الأمور باليمين، وأراذلها بالشمال. وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء. وجعلت اليمين لكاتب الحسنات، والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسيء أن يؤتاه بشماله:
استعيرت لجهة الخير وجانبه، فقيل: أتاه عن اليمين، أي: من قبل الخير وناحيته، فصدّه عنه وأضله. وجاء في بعض التفاسير: من أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشهوات. ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التكذيب بالقيامة وبالثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه: خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده، فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة. فإن قلت: قولهم: أتاه من جهة الخير وناحيته: مجاز في نفسه، فكيف جعلت اليمين مجازا عن المجاز؟ قلت: من المجاز ما غلب في الاستعمال حتى لحق بالحقائق، وهذا من ذاك، ولك أن تجعلها مستعارة للقوّة والقهر، لأنّ اليمين موصوفة بالقوة، وبها يقع البطش. والمعنى: أنكم كنتم تأتوننا عن القوّة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه. وهذا من خطاب الأتباع لرؤسائهم، والغواة لشياطينهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه، مع تمكنكم منه مختارين له على الكفر. غير ملجئين إليه وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا مختارين الطغيان فَحَقَّ عَلَيْنا فلزمنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ يعنى: وعيد اللّه بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم. ونحوه قول القائل:
لقد زعمت هوازن قلّ مالى

ولو حكى قولها لقال: قل مالك. ومنه قول المحلف للحالف: احلف لأخرجنّ، ولتخرجنّ:
الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على المحلف فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغى دعوة محصلة للبغية، لقبولكم لها واستحبابكم الغىّ على الرشد إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا فَإِنَّهُمْ فإنّ الأتباع والمتبوعين جميعا يَوْمَئِذٍ يوم القيامة مشتركون في العذاب كما كانوا مشتركين في الغواية إِنَّا مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بكل مجرم، يعنى أنّ سبب العقوبة هو الإجرام، فمن ارتكبه استوجبها إِنَّهُمْ كانُوا إِذا سمعوا بكلمة التوحيد نفروا أو استكبروا عنها وأبوا إلا الشرك.

.[سورة الصافات: الآيات 36- 39]:

{وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)}.
لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ رد على المشركين وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ كقوله مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وقرئ: {لذائقو العذاب} بالنصب على تقدير النون، كقوله:
ولا ذاكر الله إلّا قليلا

بتقدير التنوين. وقرئ على الأصل: {لذائقون العذاب} ^ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إلا مثل ما عملتم جزاء سيئا بعمل سيئ.

.[سورة الصافات: الآيات 40- 49]:

{إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)}.
{إِلَّا عِبادَ اللَّهِ} ولكن عباد اللّه، على الاستثناء المنقطع. فسر الرزق المعلوم بالفواكه:
وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوّت لحفظ الصحة، يعنى أنّ رزقهم كله فواكه، لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات، بأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه يأكلونه على سبيل التلذذ. ويجوز أن يراد: رزق معلوم منعوت بخصائص خلق عليها: من طيب طعم، ورائحة، ولذة، وحسن منظر. وقيل: معلوم الوقت، كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وعن قتادة: الرزق المعلوم الجنة. وقوله فِي جَنَّاتِ يأباه، وقوله وَهُمْ مُكْرَمُونَ هو الذي يقوله العلماء في حد الثواب على سبيل المدح والتعظيم، وهو من أعظم ما يجب أن تتوق إليه نفوس ذوى الهمم، كما أنّ من أعظم ما يجب أن تنفر عنه نفوسهم هو أن أهل النار وصغارهم.
التقابل: أتم للسرور وآنس. وقيل: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس، وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال:
وكاس شربت على لذّة

وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وكذا في تفسير ابن عباس مِنْ مَعِينٍ من شراب معين. أو من نهر معين، وهو الجاري على وجه الأرض، الظاهر للعيون: وصف بما يوصف به الماء، لأنه يجرى في الجنة في أنهار كما يجرى الماء، قال اللّه تعالى {وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ}.
بَيْضاءَ صفة للكأس لَذَّةٍ إمّا أن توصف باللذة كأنها نفس اللذة وعينها: أو هي تأنيث اللذ، يقال: لذ الشيء فهو لذ ولذيذ. ووزنه: فعل، كقولك: رجل طب، قال:
ولذ كطعم الصّرخدى تركته ** بأرض العدا من خشية الحدثان

يريد النوم. الغول: لمن غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده. ومنه: الغول الذي في تكاذيب العرب. وفي أمثالهم: الغضب غول الحلم، ويُنْزَفُونَ على البناء للمفعول، من نزف الشارب إذا ذهب عقله. ويقال للسكران: نزيف ومنزوف. ويقال للمطعون: نزف فمات إذا خرج دمه كله. ونزحت الركية حتى نزفتها: إذا لم تترك فيها ماء. وفي أمثالهم: أجبن من المنزوف ضرطا. وقرئ: {ينزفون} من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه. قال:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو ** لبئس النّدامى كنتمو آل أبجرا

ومعناه: صار ذا ترف. ونظيره: أقشع السحاب، وقشعته الريح، وأكب الرجل وكبيته.
وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب. وفي قراءة طلحة بن مصرف: و{ينزفون} بضم الزاى، من نزف ينزف كقرب يقرب، إذا سكر. والمعنى: لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك، ولا هم يسكرون، وهو أعظم مفاسدها فأفرزه وأفرده بالذكر قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، لا يمددن طرفا إلى غيرهم، كقوله تعالى {عُرُبًا} والعين: النجل العيون شبههنّ يبيض النعام المكنون في الأداحى، وبها تشبه العرب النساء وتسميهنّ بيضات الخدور.